سورة سبأ - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}
أي بينهم وبين الشام فإنها هي البقعة المباركة. وقرى (ظاهرة) أي يظهر بعضها لبعضها يرى سواد القرية من القرية الأخرى، فإن قال قائل: هذا من النعم والله تعالى قد شرع في بيان تبديل نعمهم قوله: {وبدلناهم بِجَنَّتيهِمْ جَنَّتَيْنِ} فكيف عاد مرة أخرى إلى بيان النعمة بعد النقمة؟ فنقول ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل، ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها بكثرة القرى، ثم ذكر تبديله ذلك بالمفاوز والبيادي والبراري بقوله: {رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وقد فعل ذلك، ويدل عليه قراءة من قرأ (ربنا بعد) على المبتدأ والخبر، وقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} الأماكن المعمورة تكون منازلها معلومة مقدرة لا تتجاوز، فلما كان بين كل قرية مسيرة نصف نهار، وكانوا يغدون إلى قرية ويروحون إلى أخرى ما أمكن في العرف تجاوزها، فهو المراد بالتقدير والمفاوز لا يتقدر السير فيها بل يسير السائر فيها بقدر الطاقة جاداً حتى يقطعها، وقوله: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً} أي كان بينهم ليال وأيام معلومة، وقوله: {ءَامِنِينَ} إشارة إلى كثرة العمارة، فإن خوف قطاع الطريق والانقطاع عن الرقيق لا يكون في مثل هذه الأماكن، وقيل بأن معنى قوله: {لَيَالِيَ وَأَيَّاماً} تسيرون فيه إن شئتم ليالي وإن شئتم أياماً لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلاً، لئلا يعلم العدو بسيرهم، وبعضها يسلك نهاراً لئلا يقصدهم العدو، إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة، وقوله تعالى: {قَالُواْ ربَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قيل بأنهم طلبوا ذلك وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يسألوا بطراً كما طلبت اليهود الثوم والبصل، ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يقدر كما يقول القائل لغيره اضربني إشارة إلى أنه لا يقدر عليه. ويمكن أن يقال: {قَالُواْ ربَّنَا بَعْدَ} بلسان الحال، أي لما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم، وقوله: {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} يكون بياناً لذلك، وقوله: {فجعلناهم أَحَادِيثَ} أي فعلنا بهم ما جعلناهم به مثلاً، يقال: تفرقوا أيدي سبا، وقوله: {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} بيان لجعلهم أحاديث، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي فيما ذكرناه من حال الشاكرين ووبال الكافرين.


{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}
أي ظنه أنه يغويهم كما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ} [ص: 82] وقوله: {فاتبعوه} بيان لذلك أي أغواهم، فاتبعوه {إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} قال تعالى في حقهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42] ويمكن أن يقال: صدق عليهم ظنه في أنه خير منه كما قال تعالى عنه: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} [الأعراف: 12] ويتحقق ذلك في قوله فاتبعوه، لأن المتبوع خير من التابع وإلا لا يتبعه العاقل والذي يدل على أن إبليس خير من الكافر، هو إن إبليس امتنع من عبادة غير الله لكن لما كان في امتناعه ترك عبادة الله عناداً كفر، والمشرك يعبد غير الله فهو كفر بأمر أقرب إلى التوحيد، وهم كفروا بأمر هو الإشراك، ويؤيد هذا الذي اخترناه الاستثناء، وبيانه هو أنه وإن لم يظن أنه يغوي الكل، بدليل أنه تعالى قال عنه: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 76] فما ظن أنه يغوي المؤمنين فما ظنه صدقه ولا حاجة إلى الاستثناء، وأما في قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} اعتقد الخيرية بالنسبة إلى جميع الناس بدليل تعليله بقوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] وقد كذب في ظنه في حق المؤمنين، ويمكن الجواب عن هذا في الوجه الأول، وهو أنه وإن لم يظن إغواء الكل وعلم أن البعض ناج، لكن ظن في كل واحد أنه ليس هو ذلك الناجي، إلى أن تبين له فظن أنه يغويه فكذب في ظنه في حق البعض وصدق في البعض.


{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}
قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3] أن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالماً لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه، فإن العلم صفة كاشفة يظهر بها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالم سيوجد، فإذا وجد علمه موجوداً بذلك العلم، وإذا عدم يعلمه معدوماً بذلك، مثاله: أن المرآة المصقولة فيها الصفاء فيظهر فيها صورة زيد إن قابلها، ثم إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها، إنما التغير في الخارجات فكذلك هاهنا قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} أي ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر والإيمان من المؤمن وكان قبله فيه أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو.
وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سلطان} إشارة إلى أنه ليس بملجئ وإنما هو آية، وعلامة خلقها الله لتبيين ما هو في علمه السابق، وقوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} يحقق ذلك أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9